منذ حوالي ثلاثة أشهر اهتزت الخزينة العامة للدولة –وعلى وقعها الرأي العام الوطني- بسبب عمليات اختلاس واسعة في مناطق متفرقة من البلاد وفي بعض السفارات الأجنبية. ومع أن عمليات التلاعب بالمال العام حصلت في أماكن مختلفة، فإن جملة اعتبارات من بينها ضخامة المبالغ المختلسة، جعلت الانظار تتركز على ما يعرف ب"فضيحة نواذيبو"، حيث وجد وزير المالية وكبار معاونيه أنفسهم مرغمين على التوجه إلى المدينة للإطلاع "عن قرب" على مختلف التفاصيل ولاتخاذ "إجراءات عقابية" ضد بعض موظفي الوزارة.
ومع ذلك لم يحصل كبير اهتمام بإطلاع الرأي العام على حقيقة ما وقع وخصوصا على اتخاذ أية إجراءات جديدة من شأنها أن تضمن حماية أموال الخزينة من عمليات تحايل قد تلعب الصدف في المستقبل دورها مجددا في الكشف عنها، مما يترك المجال واسعا أمام التساؤل المركزي الذي يشغل بال المهتمين بالموضوع والذي ليس شيئا سوى التساؤل القديم الجديد: هل أصبحت مليارات الخزينة في مأمن من التلاعب بها، أم أنها ما تزال تحت رحمة المتربصين بها؟
تصطدم محاولة التحقيق في الموضوع للإجابة على هذا التساؤل، بالعقبات المتعلقة بفرض السلطات المختصة طبقات من التعتيم عليه، غير أن أهميته تفرض البحث عن المعلومة لدى الممارسين والخبراء وحتى لدى أولئك الذين يرفضون الاسترسال في الحديث عنها لهذا السبب أو ذاك، وذلك بهدف الاقتراب من إحدى أكثر القضايا تعقيدا لإلقاء ضوء ولو خافت داخل نفق مكتظ بالتراكمات والتقاليد الخطرة، ومعتم لدرجة ربما جعلت ساكنيه لا يشعرون حتى بوجود عالم خارجي بجوارهم.
تلاعب "مكشوف"
لا تتوفر معلومات موثوقة عن الطريقة التي تم من خلالها اكتشاف عملية التلاعب في نواذيبو، وإن كانت بعض المصادر تشير إلى أن "جهازا خارجيا" هو أول من اشتبه في حصولها من خلال ملاحظة بعض التغييرات الحاصلة في مستوى حياة أحد المشتبه بهم، لتقوم الحكومة بإرسال بعثة تفتيش من مفتشية الدولة تمكنت دون كبير عناء من كشف الفرق المعتبر الحاصل بين مداخيل الجمارك ومداخيل الخزينة.
وقد تكون سهولة عمل مفتش الدولة عائدة إلى أنه جاء في وقت لم يكن منتظرا فيه، مما حرم المشتبه بهم من اتخاذ الاحتياطات الضرورية لتحقيق التوازن المطلوب بالطريقة المعهودة في نهاية كل سنة مالية، غير أنها قد تعود أيضا لحجم المعلومات المتاحة أمامه وقدرته على الاطلاع على أكثر من مصدر واحد على عكس المفتشين الداخليين للوزارة الذين يقومون دوريا بعمليات تدقيق لم تسعفهم في اكتشاف الخلل.
وفي الواقع فنحن أمام عمليات تحايل "تقليدية" جد مكشوفة لدرجة لا يمكن معها تصديق قدرتها على النجاح طوال هذا الوقت في تضليل كل طاقم وزارة المالية المختص، إلا حين يكون فيها بعض هذا الطاقم قابلا للتضليل وبعضه الآخر مغيبا عن الدائرة المطلعة على مختلف تفاصيل العمليات.
ولكي نفهم الموضوع بشكل أعمق، ينبغي لنا أن نستحضر في أذهاننا السادة الفعليين لميناء نواذيبو (بل لأي ميناء)، أي ذلك "الثلاثي المرح" الذي يبدأ برجل الجمارك والوسيط قبل أن ينتهي بمحصل الخزينة. فبعد التدقيق في البضاعة وانتهاء مرحلة التفاهمات، يقوم الجمركي بإصدار كشف للوسيط عليه أن يسدد المبلغ الموجود فيه للخزينة.
وانطلاقا من هذه النقطة سيبدأ دور محصل الخزينة الذي عليه نظريا أن يعد "مخالصة" من 3 نسخ، على أن يمنح النسخة الأولى (الأصلية) منها للوسيط ونسختها الثانية لإدارة الرقابة والتدقيق الداخلي بالخزينة وتصحب الثالثة مع كشف الجمارك لينتهي بها المطاف في إدارة المركزة التابعة أيضا للخزينة.
أما من الناحية العملية فهناك أكثر من طريقة للتلاعب بهذه المخالصة من بينها الطريقتان المستخدمتان مؤخرا –طبقا لعدة مصادر- في التلاعب بمليارات الخزينة بنواذيبو. ففي الطريقة الأولى يتم فصل النسخة الأصلية (الاولى) من المخالصة والتسجيل فيها منفصلة عن النسخة الثانية حتى لا تتطابق معها. وهو ما يمكن المحصل من تسجيل مبلغ أقل من المبلغ الحقيقي في النسخة الثانية للمخالصة التي سيراجعها المفتشون الداخليون في الوزارة.
في حين تتطلب الطريقة الثانية تواطأ المحصل مع الوسيط الذي بعد أن يستخدم النسخة الأصلية من المخالصة في الحصول على بضاعته من الجمارك، يقوم بإعادتها إلى المحصل الذي يقوم بالشطب عليها وإلغائها لتبدو العملية –التي قد تحوي عشرات أو مئات الملايين- بالنسبة للخزينة وكأنها لم تحصل أصلا، بالرغم من أنها مسجلة لدى الجمارك وموثقة لديهم!
نقاط مظلمة
كان من الطبيعي -بعد اكتشاف "فضيحة نواذيبو"- وسجن المشتبه بهم، أن تتجه الأنظار في المرحلة الأولى نحو إدارة التدقيق الداخلي باعتبارها الجهة المعنية بفحص النشاطات المالية وكشف مختلف الاختلالات التي تشوبها. لذلك لم يكن من المفاجئ أن أول إجراء تم اتخاذه هو إقالة مدير التدقيق، قبل أن تتم في مرحلة لاحقة إقالة أكثر من 10 من محققي هذه الادارة.
نحن إذا أمام "ردة الفعل" المثالية التي علينا توقعها في مثل هذه الحالات من إدارة مستعدة لمعاقبة المقصرين! هذا إن بقينا على المستوى النظري فقط، أما حين ننتقل لمستوى أبعد من التحليل، فسنجد بأن تعقيدات الواقع تدفعنا للتساؤل حول جدوائية "ردة الفعل" هذه وحول مسوغات صب كل الاهتمام على إدارة التدقيق الداخلي؟ وما إذا كانت هذه الادارة مذنبة بالفعل، أم أنها مجرد كبش فداء تمت التضحية به لحرف مجرى التحقيق من جهة ومغالطة الرأي العام من جهة أخرى؟
تبدأ الشكوك حين تمت المسارعة إلى إقالة مدير التدقيق ولا تنتهي حين تم استبداله بمفتش الدولة الذي كان يحقق في فضيحة نواذيبو! وكأن القائمين على الوزارة لم يفكروا في التأويلات الممكنة لمثل هذا التصرف! هل كان المفتش –مثلا- أثناء التحقيق يركز كل اهتمامه على منصب المدير وبالتالي على توريط إدارته؟ وهل يمكن تفسير تعيين المفتش على أنه "هدية" مقابل خدمة ما؟ وأية خدمة يمكن للمفتش أن يكون قدمها للقائمين على الوزارة في هذا الملف؟
وأي مغزى للمسارعة إلى تحميل إدارة التدقيق المسؤولية عن ملف قد لا تكون وحدها المسؤولة عنه؟ هل يتعلق الأمر –مثلا- بمحاولة إقصاء رأيها حول مجريات الأحداث وإغلاق الملف في غيابها وعلى حسابها وربما أيضا على حساب مليارات الخزينة؟
قد يكون هناك بالفعل من يمتلك إجابات قطعية على مثل هذه التساؤلات لكنه يمتلك المصلحة في تركها من دون أجوبة، غير أن ذلك لا يعني عدم إمكانية مقاربتها من عدة جوانب أملا في إنارة بعض جوانبها المظلمة.
أي دور لإدارة التدقيق؟
يبدو أننا هنا أمام منهجية تقليدية في التعامل مع الرأي العام خلال هذا النوع من الأزمات: ففي مرحلة أولى وحين كان وقع الفضيحة ما يزال قويا تمت التضحية بالمدير، وفي مرحلة لاحقة –وحين ضعف الاهتمام بالموضوع- جاء الدور على رؤساء المصالح والأقسام. ولو أن الحديث لم يهدأ حول الموضوع، فلربما كان علينا توقع التضحية بسكرتيرات الادارة وبوابيها وربما حراسها!
هذه الرغبة العارمة في "استهداف" إدارة التدقيق والاستعداد لتفريغها من موظفيها، وخصوصا الاقتصار على تحميلها المسؤولية، كل ذلك من شأنه أن يولد قناعة راسخة لدى الرأي العام –ولم لا لدى المحقيين؟- بأنها مسؤولة بالفعل عن ضياع "مليارات الخزينة" وبأن مسؤولية تأمين هذه المليارات تقع على عاتقها فقط.
وفي الواقع فنحن أمام إدارة حديثة النشأة تم إنشاؤها سنة 2011، في إطار "سياسة محاربة الفساد"، بهدف "تنشيط القدرات وتحديث الإدارة العامة للخزينة والمحاسبة العمومية عن طريق نقل خبراتها في مجالات التشخيص والتحليل والاستشارات والدعم إلى جميع المصالح الأخرى"، بحسب تعبير مسؤول سام في وزارة المالية. وقد "حرصت منذ إنشائها على جذب احتياطي من الأطر المؤهلة القادرة على التماس أفضل الطرق وأنجع الوسائل لتمكين هذه الادارة من الاضطلاع بالمهام الموكلة إليها"، بحسب تعبير مسؤول سام آخر في نفس الوزارة.
هذا أيضا على المستوى النظري، أما خارجه فإن دور مفتشي أو مدققي الادارة في الملف الحالي يقتصر على القيام بزيارات شهرية "خاطفة" للتدقيق في المداخيل والتحقق من مطابقة تسجيل المحاسب لها في النظام المحاسبي للخزينة (بيت المال) ووصول مقابلها من الأموال لخزينة الدولة.
ويستند المفتشون في عملهم هذا فقط على النسخة الثانية من المخالصة التي سبق التعرض لها، من دون أن تتاح لهم إمكانية الاطلاع على كشف الجمارك وبالطبع من دون أن تكون لديهم "حظوة" الاطلاع على مخرجات النظام المحاسبي للجمارك (سيدونيا) الذي يظل أكثر المراجع مصداقية باعتباره أحد الانظمة المتطورة في المجال.
وأكثر من ذلك فإن هؤلاء المدققين يؤدون عملهم طبقا لتقاليد "عتيقة" ومن دون أن تكون لديهم مسطرة إجراءات تنير تصرفاتهم وتفتح لهم مختلف الأبواب المتعلقة بمجال عملهم والذي تم حصره في حدود ضيقة تحدها "النسخة الثانية" من جهة و"بيت المال" من جهة أخرى!
ولسوء حظ هذه الادارة، لم يكن في متناولها اكتشاف عملية التحايل الحاصلة لأنها خرجت عن دائرة اختصاصها لتدخل ضمن الدائرة "المحرمة"عليها، وليصبح اكتشافها متعلقا بالمطابقة بين نظامي "سيدونيا" و"بيت المال" لا بين هذا الأخير والنسخة الثانية التي تم التلاعب بها!
ورغم سهولة هذه العملية بالنسبة للجهات التي تمتلك حق الولوج للنظامين المحاسبيين، فقد استمر التحايل على "مليارات الخزينة" لسنوات طويلة من دون أن يثير ذلك انتباه مختلف تلك الجهات، سواء تعلق الأمر بإدارة المركزة التي تصلها النسخة الثالثة من المخالصة مع كشف الجمارك أو إدارة الخزينة أو حتى وزير المالية الذين يملكون نظريا إمكانية مطابقة بيت المال مع سيدونيا يوميا أو أسبوعيا أو في أسوإ الحالات شهريا!
فهل يمكن اعتبار هؤلاء أيضا مقصرين في أداء مهامهم يستحقون المساءلة؟ وما الذي يعنيه في مثل هذه الحالة ترك إدارة التدقيق الداخلي في أهم وزارات البلاد من دون دليل إجراءات ومن دون صلاحيات فعلية؟ ولمصلحة من يتم حجب معطيات سيدونيا وحتى كشوف الجمارك عن محققين هدفهم رقابة الأموال العامة؟
هل بإمكاننا الاعتقاد ولو للحظة بأن المحصل كان سيتجرأ على القيام بمثل عمليات التحايل هذه إن لم يكن "مطمئنا" على أن المطابقة لن تحصل بين سيدونيا وبيت المال أو على الأقل لن تكون متاحة للمحققين الذين سيدققون في حساباته؟ وما مغزى استمرار إدارة الخزينة –في زمن الحرب على الفساد- في استخدام نظام محاسبي غير معروف من بين الأنظمة العالمية، فيما تنجح إدارة الجمارك في استخدام نظام عالمي متطور؟
الدرس الضائع
سبق طرح مثل هذه التساؤلات خلال حادثة مماثلة تعرضت لها مليارات الخزينة في ميناء نواكشوط سنة 2009. وحينها أيضا لعبت الصدفة أو ربما اليقظة، دورا حاسما في اكتشاف عمليات التلاعب، ذلك أن مدير الخزينة حينها –أثناء حضوره لحفل منظم من طرف إدارة الجمارك- لاحظ أن الرقم الذي قدمه مدير الجمارك في خطابه، للمداخيل لا يتطابق مع الرقم الموجود لديه، لتبدأ التحقيقات التي ستكتشف تلاعبا واسع النطاق.
وبدل البحث حينها عن "كبش فداء" تم الشروع في إجراءات إصلاحية لتأمين أموال الخزينة، غير أن الكثيرين ربما لا يتذكرون أن المدير حينها تم نقله قبل استكمال تلك الاجراءات التي توقفت على مستوى ميناء نواكشوط عاجزة عن أن تتواصل لتشمل باقي المصالح المهمة في ميناء نواذيبو وجمارك المدينة في نواكشوط ولا حتى معبر روصو، مما ترك مليارات الخزينة داخل مختلف هذه النقاط في دائرة الخطر!
يتعلق الأمر هنا بفرق جوهري بين "ردة الفعل" اليوم ومثيلتها سنة 2009، حيث تم التوجه حينها للبحث عن أفضل السبل لمحاصرة الثغرات التي يتسلل منها الفساد، بينما تمثل التوجه اليوم في تركيز الاهتمام على التضحية بموظفين بسطاء لم تمنح لهم أصلا الامكانيات التي تتيح لهم تأدية مهامهم، وعلى تدمير إدارة وليدة ما تزال جسما غريبا داخل الوزارة ولربما جاء إنشاؤها أصلا –والحالة هذه- بهدف استغلالها كخط دفاع أولي يمكن التستر خلفه لتحقيق الأهداف والتخلص منه عند الاقتضاء بعد تحميله المسؤولية عن تصرفات لا يمكنه حتى إدراك كنهها!
والواقع أن هذا التوجه يمكن تفهمه فقط، في حالة ما إذا كان مجرد إجراء أولي يدخل ضمن استراتيجية متدرجة لتحديد المسؤوليات ومساءلة مختلف المعنيين بالملف، أما حين يكون بمثابة "الحل" لهذا الملف البالغ التعقيد، فإنه قد يرقى لمستوى الجريمة، ليس لأنه يضحي بموظفين قد يكونون أبرياء لمصلحة آخرين قد يكونون متورطين فحسب، بل أيضا لأنه سيكون مجرد خدعة مؤقتة قد تنفجر غدا أو بعد غد مخلفة مزيدا من الأضرار لأموال البلاد ولسمعة إدارتها.