منَ الاحتراقِ إلى الاحتِراق.......ما الذِي يمكنُ القبضُ عليهِ في "غرابيلَ مسقوفةٍ بالثقُوب"؟؟

جمعة, 2020-08-07 01:28

محمد المامون محمد

 

 

 

(1)

إنَّ غوايةَ الشِعر لا تَقفُ عندَ مُمارستِه، ولا تَعترفُ بِحدودِ كتابتِه، بل هيَ في جوهرِها تمثلٌّ كليٌّ لاقتِراحاتِه المُنفتحةِ كالصَحراء على جِهات المعنَى، وحفرٌ لانِهائيٌّ في مناجمِ الأشياءِ عن معدِن الدهشةِ الخالص. من هُنا يتأسَّس لي، كراعٍ همُّه الأزليُّ مطاردةُ الطبيعةِ بحثًا عن عشبِ الجمالِ وماءِ المعنى، أن أنفذَ إلى أقطارِ الكتابةِ عن الشعرِ، بغيرِ جناح الشعرِ. لتظلَّ بارقةُ الشعرِ حاضرةً إزاءَ هذا التَحليق، ليسَ فقط في غايته التي تصبو إلى الإثارةِ والاشتِباك، وإنَّما في غوايتِه، وما هي مَحفوفةٌ به من مُغامراتٍ طائشة.
إنَّ الاشتباكَ مع ديوانِ "غرابيل مسقوفةٍ بالثقوب"، ومحاولةَ الوقوفِ على إثاراتِه، وتلمسَ نقاشاتِه المتناثرةِ على امتِدادِ جُغرافيا ستة عشر نصا، تزخرُ بتنوعٍ في الظواهرِ والمواضيعِ، وتفيضُ بانقلاباتٍ مناخيةٍ في العاطفةِ والموقف، يحتاجُ هدوءً ثاقبًا في القراءةِ، و انفتاحًا أرحبَ على "صدى مسٍّ من الحرفِ المُضمَّخ باحتِضار الشكِّ في اللغةِ القديمةِ والجديدة"؛ بتعبيرِ الشاعر. ليس هٰذا فحسب، وإنَّما تحتاجُ أيضا فيزياء اللغةِ في الديوان، وما تَجترحُه من أكوانٍ متعددةٍ ومتفاعلةٍ، وطاقاتٍ لانهائيةٍ، إلى أدواتٍ بذاتِ تعددها وتفاعُلها، لتكونَ معادلةُ المعالجةِ متوازيةً. وهذا مَا يحتاجُ صرامةً منهجيةً، ونباهةً فكريَّةً، لا أدَّعي حيازَتهما، بل إنَّني في هذا الأمرِ بينَ مأزقينَ وقلقينِ: ذاتيٍّ وموضوعيٍّ.
ذاتيٌّ يتشكَلُ استدعاءهُ بناءً على المقولةِ السائِدة "إنَّ كل ناقدٍ هو شاعرٌ فاشل"، وأنا منَ الشعر انحيازًا بحيثُ لا أطمئنُّ إلى هذهِ الدعايةِ، لو صَدقت في نبوءتِها، ولكنَّ العزاءَ، كما أسلفت، في أنَّ هذه المُغامرة في تقصِّي كلإ المعنَى والدهشةِ، هو من صَميم الفعلِ الشعريِّ وإن تخيَّرَ إطارًا آخرَ، وأمَّا الموضوعيُّ فهو خشيةُ الارتِهان إلى فخِّ المأزق الابستمولوجيِّ الذائع، الفخُّ الذي يقيِّد الذاتَ بوعيها عن خوضِ موضوعاتِها بانسلاخٍ، فأنا في النهايةِ وإن كنتُ أتناول ديوان صديقٍ لي، ففي مُستوى آخر أتناولُ المشتركَ والحساسيَّة والهمَّ الشعريَّ الذي يجمعنا معًا، على اختِلافٍ في التفاصيلِ واتفاقٍ في الخطوط العريضة.
وليسَ لي في مُحاولةٍ متثائبةٍ، إلا أن أرضخَ -وإن شقَّ الأمر - لرغبة رولان بارت في جعلِ صديقي ميِّتًا.

(2)

إنَّ القراءةَ لهذه المَجموعةِ، لا يُمكن أن تنطلقَ منها، دونَ الرجوعِ إلى الإطارِ العام، إلى المشروعِ المُتكاملِ، إلى لحظاتِ الاندلاع الأولى. فهي من عنوانِها، تبدو نقطةً انتقاليةً، ما يجعلُها متأسسةً على قاعدةٍ سابقةٍ، ولحظةٍ كتابيةٍ ماضيةٍ، تتقاطعُ معها في عمليَّة "الغربلة"، التي هي الآن في طورِ المُفاعلةِ والتكوين. هذه المُفاعلة التي يعلنُ عنها بوضوحٍ شفيفٍ، العنوانُ الأول من نُصوص الديوان "ما بقي منَ النَّص" وإضاءاتُه الفرعيةُ في إيحاءاتِها المُتعلقةِ بمسارِ الكتابةِ، ممارسةً وتمثلاً. إذًا، فهذه المجموعةُ هي امتدادٌ لمسيرةٍ حافلةٍ بتقصِّي الكتابةِ الشعريةِ في خصوصيَّتها، ورصدٌ للتحولاتِ الكبرى في مساراتِها واهتِماماتها وهواجِسها الوجودية في ضمير الذاتِ الشاعرة. ويتحققُ ذلك أكثرَ في الصِبغة التي يَخلعها الشاعرُ على رهاناتِه في الحصولِ على ما يُمكن القبضُ عليه من الشعرِ، ليجدَ نفسه أمامَ كائنٍ زئبقيّ، لا ينتَهي إلى حدٍّ ثابتٍ، ولا يقفُ على شكلٍ محدودٍ، بل هو حركةٌ وتغيُّرٌ وانفتاحٌ وتجاوزٌ وتشظٍّ. 
أمامَ هذه التعدديةِ والتنوعِ اللانهائيِّ، انتبذَ الشاعرُ من اللغةِ أكثرَها تجردًا وتجذرًّا في العموميَّةِ، وأقصاها قدرةً على مُلاحقةِ هذا الكائنِ المتشظِّي، فافتتحَ مجموعته بالبحثِ عن "شيء"، وهو لفظٌ يختزلُ في ذاكرتِه الدلاليةِ انفتاحًا عميقًا، كما يعبرُ عنه في مجال أصول الفقهِ، بأنَّه لفظ من ألفاظ العُموم. ثم لاَ يلبثُ هذا الشيءُ الذي يدور في بال الشاعرِ والنصِّ، أن يدخلَ في مرواغتِه الشيِّقة، حيثُ "تحترق المسافةُ دونه" و "يلتبسُ التأويل" و "يحاصر المجاز ببلاهةِ التفسير". 
منذ هذا الاحتِراق الذي ينتابُ المسافةَ، تبدأ منعرجاتٌ جديدةٌ إلى سفرٍ مثخنٍ في نفسهِ، سفرٍ على مسافةٍ محفوفةٍ بالنار والكبريت. هذا السفرُ الذي ينطلق من فاتحةِ الديوان، رافعًا شعار الاحتراق، يظلُّ متواصلاً لا وصولَ فيه، حتى آخر كلمةٍ في الديوان، والتي تحثُّ أكثر في صيغته الأمريةِ على مزيدٍ من الاحتراقِ "احمل ورودكَ للقصيدةِ واحترقْ..ثمَّ احترق"، وهي صيغةٌ ذكيَّة الاستخدامِ، من حيث أنَّها لا تعترفُ بنهايةِ السفرِ، وإنَّما تتركُه مُتواصلاً في الزمنِ، "متحررًا من الوقتِ" بتعبيرِ الشاعر في قصيدة "العتمة". هكذا تمتزجُ في هذا السفرِ الوسيلةُ بالغايةِ، ويصبح لاحقًا هذا الاحتراقُ هو الدافعُ الأبرز إلى مواصلةِ الرحيل، والتشبثِ بآفاقه المُتجددة والمنبعثةِ من رمادِ الاحتراقِ، هذا الرمادُ مجسدًا في القَصيدة والخطابِ الفنيِّ، هو البقيَّة مما تركَ الاحتراقُ في سبيلِ الشعر " يا صاحبِي إنَّ القصيدةَ في دمي نارٌ ونور". وفي محاولةٍ مرهونةٍ بعدمِ الحسمِ يقدم الشاعرُ على مسائلةِ هذا الاحتراق في قصيدة "لو أنَّنا لم نحترقْ" مُعرِّضا بسيلٍ من الاحتمالاتِ المدفوعةِ برغبةِ الشاعرِ في فهمِ ما يجرِي، ما يجعلُ الاحتمالاتِ منتبهةً بإفراطٍ، في اكتشافِ مداراتِ ومداءاتِ هذا الاحتراق، لكنَّها تعودُ محمولةً على تابوتِ العجزِ، مُتطلخةً بالاحتِراق في مُحاولةٍ فاشلةٍ للفرارِ من سُلطته:

" لو أنَّ طيفَ ذبابةٍ في الماءِ لم يبصق دمًا
لو أنَّها لم تهربِ الكلماتُ منَّا 
لم تَضقْ..
ذرعًا بنا كلُّ اللغاتِ لنفترقْ
لو أنَّ سهمًا 
في شعابِ القلبِ 
لم يرسم دوائرَ في شرايينِ القصيدةِ 
والحقيقةِ والورقْ 
لم نَحترقْ"!!

أمَّا على مستوًى آخرَ، فإنَّ هذا اللاحسمَ تجاهَ الاحتمالاتِ المفتوحة والمتعددة، ينبت في أحشاءِ المجموعةِ، ويلتصق بها من حيثُ يصبح البِنية الأساسيةَ التي تقوم عليها، والثيمة الأولى التي يتناولها، فمنذ العنوانِ الذي يترك الذهنَ "مغربلاً" من كلِّ يقينٍ، ومسقوفًا باحتمالاتٍ مثقوبةٍ وقاصرةٍ عن الحسم، فعلى بداههته وتلقائيته لن يفتأَ حتى يُضرمَ سؤالاً متأملاً ومُراجعا. غير أنَّ هذا اللاحسمَ لا يخضعُ في المجموعةِ لمنطقِ الميكانيكا ولا ميكانيكا المَنطق، فهو متزوعٌ مبثوثٌ على امتدادِ خريطة القصائد، ومتداخلٌ مع أكثرَ من مفهومٍ من قبيل ( الشك والتأويل والالتباس والسؤال والتردد واللعلية) حيث يتقاطعُ معها ويتقنعُ بها، فهو حاضر وغائبٌ، شفيفٌ وخفيٌّ، صارخٌ وخافتٌ، وهذه بالطبعِ طبيعتُه وسجيَّته.
ينطلقُ هذا اللاحسمَ الذي ينسحبُ ليس فقط على العوالمِ الداخليةِ للذاتِ الشاعرة، وإنما يتم إسقاطه على تمثلاتِ الكتابة والحياة والوجود، ينطلقُ من عمليةِ الاختيار التي تفرضها قوانينُ الشعر، على اللغة والموسيقى والأفكار والخيال، وتتجسدُ في الديوان منذ اللحظة التي يقفُ فيها الشاعر إزاء الهموم
 "والصبايَا الراقصاتِ 
بباحة القلب الكسيرِ
 كأنجم الليل الحزين، 
 فليسَ يعرفُ أيَّهن سيلتقي 
أو ينتَقي." 
يحدث هذا أيضا داخل لحظةٍ مقدوحةٍ من كبريتِ الالتباس الذي يترصده الكاتبُ في تتبعهِ لهوامشِ ما تُمليه لحظةُ الشعر. ثم لا يتوقفُ هذا اللاحسم بل يبقى متناثرًا كنمشٍ وقورٍ فوق جسدٍ طائشِ الأنوثة، حتى يندفقَ في اعترافٍ صادحٍ بقصيدة "العتمة " بشكلٍ مباشرٍ :
فيا درةَ التابوت غيبي قصيدة
وعودي احتمالا مرهقا متعددا.
في هذا الاعتراف، يصبغ الشاعر عليه صفة الإرهاق، وهي حالة لا تشي باستِسلامٍ كسولٍ، وإنَّما في محاولةٍ لتأطيرِ التأثيرات التي تصاحب هذا النزوع في عدمِ الحسمِ، حتى تتمكنَ شعرنتُها. وفي قصيدة "المؤول"، وبعيدًا عن أشكلاتِها التي تقترحُ، وفنياتِها التي تكتسي، تبزغ ذروةُ هذا اللاحسم، ليس فقط في التصورِّ والمُتصور، وإنما في تداعياتهما واستدعاءاتِها،ما يعضدُّه التأويلُ من حيثُ هو انفتاحٌ لانهائيٌّ على مساراتِ واتجاهاتِ المعنى.
وفي قصِيدة "الظل" يعلنُ الشاعر دون مواربةٍ تحطم الأشياء والمعاني وتثويرها من الداخِل في مُحاولةٍ لإعادةِ بناءها من خِلال الشك الذي يطاله هذا التحطيم أيضا: 
" ونشك في هذا الصَباح
وفي الحَقيقة
في الشُعور المحض، والحُبِّ المُكدس في الكُتب!
ونشكَّ في الشك المريبِ 
وفي السحبْ..
وأن نشكَّ بزرقةِ البحر المسيَّج بالطحالب
ليس بحرًا ذلك النهر
المحاصرُ بالمحار
وليسَ شعرًا ما يُقال عن الظلال،
<من قالَ لكْ..>
<سيقولُ عنك>
!!""

(3)

 

يبدُو اماعلي في مجموعتِه هذه، أشدَّ التصاقًا باللغةِ، وأحرصَ على الرهانِ بها في قِمار الكتابةِ. وحيثُ تتحولُ اللغةُ عندَه هنا، إلى قيمةٍ لا أداةٍ، إلى معبَّر بهَا وعنها في ذاتِ الآن، حيثُ يلحتمُ الدال والمدلولُ، وتنمحي المَسافةُ الموضوعيةُ بينهما، في هذا التَماهي يتحقَّق شرطُ الفنونِ الذي تحدثَ عنهُ خورخي لويس بورخيس نقلا عن والتر باتر قوله "إنَّ الفنونَ كلها تصبو إلى شرط الموسيقى" حيث لا ينفصل الشكل عن المحتوى، وحيث المؤثرُ هو عينُ التأثير.  وفي حضورِ اللغة، يتخلى الشاعرُ عن ذاتِه، وتصبح الحُمولات اللغويةُ هي المُعادل الموضوعيُّ لتلك الذاتِ الذائبةِ والصامتة، وهذا ما يمنحُها تعددًا وجوديًّا، وتنوعًا صوتيًا، تصيرُ من خلاله أقربَ إلى التجردِ والالتِحام بالآخرِ في شكله الوجودِي سواءً كان إنسانيًا أو طبيعيًّا. ويمكنُ القبضُ على هذه المُفارقةِ في الديوان من خِلال تتبعِ الصوتِ الداخلي للذاتِ الشاعرة، والذي لم يكنْ مركزيًا في المجموعةِ، بل ظل حضوره محدودًا جدًّا، لكنك سرعانَ ما تدهمُك المرآةُ التي وضعها الشاعرُ ليخفي وراءها ملامَحه، ويتجردَّ لتناول موضوعاته، ولأنَّ دأب الشاعر الفضيحةُ، وليس صبورًا على الكتمانِ، لا يتمالكُ نفسه دونَ كشف سرِّه وخلعِ قناعه فيجيءُ الاعتراف، وإن بصوتٍ غيرِ حاسمٍ شأنَ كلِّ شيءٍ في الديوان: 
 ونظرتُ في المرآةِ..قلتُ لعلَّه 
 هذا المُسافرُ في مَتاهتهِ....أنا!
والعجيبُ أن هذا الاعترافَ يأتي في أعتى النصوصِ مُفارقةً للذاتِ، على الأقلِّ في عنوانه "معزوفة الغائب".
يتواصلُ رهانُ امَّاعلي على اللغةِ في سبرِ اللحظةِ الشعرية وما تَقترحه من فضاءاتٍ قد تَضيقُ بها العبارةُ، فينزاحُ رهانُه إلى اقتِناصاتِ الخيال، وافتعالِ الحدث الشعريِّ، ممَّا يضرمُ في الموسيقى حماسَ العاطفةِ ولهيبَ الإحساساتِ. هكذا تتفاعلُ اللحظةُ الشعريةُ عنده ضمنَ هذه الاتجهاتِ ثلاثيةِ الأبعاد (اللغة الخيال التحام الموسيقيِّ والعاطِفيِّ) في سبيل خلقِ الحدثِ الشعريِّ.
إنَّ ذلك التَداعي الخياليَّ والعاطفيَّ-الموسيقيَّ المُنطلق والمُنزاح لم يُغن في النِهاية عن الاستدعاءِ التاريخيِّ والثقافيِّ، وذلك الرهانُ على اللغوي لم يَمنع من الارتهانِ للرمزِيِّ. لتبدأ علاقةٌ جديدةٌ بين هذا التداعي والاستدعاءِ، يمتزج فيها الواقعي بالخيالي، والتاريخيُّ بالآنيِّ، والثقافيُّ النسقيُّ بالعالميِّ والكونيِّ. ويظهرُ هذا الاستدعاءُ في المجموعةِ على مستويين:
 -واعٍ-مباشر، يتمثلُ في الاستدعاءات التاريخية والثقافيةِ والمثيولوجية.
 -لاواعٍ-غير مباشرٍ ويتمثلُ في النصوصِ الصامتةِ داخلَ النَّص الناطق، أو ما يُعبَّر عنها مدرسيًّا بالنصوصِ الغائبة.
لا يتأتَى المرور في هذه العجالة على كلِّ هذه الاستدعاءات وتناولها، وإنَّما تحاولُ اقتناصَ الخطوط العريضة التي تتلامسُ ضمنها وتتفاعلُ، وإلى المراجع الشعريةِ والفنيةِ التي تصدرُ عنها في مُجملها. ولئن كانَ نصّا " أندلس" و" الظل" هما أكثرُ نصوص الديوانِ استدعاءاتٍ تاريخيةً وسيسيو-ثقافية، فإنَّ مرد ذلكَ فيما يبدو راجعٌ إلى محاولةٍ غيرِ مستقرة في تجاوزِ الحماسِ العاطفيِّ والحكمِ القيميِّ، من خلالِ الحكم بالتاريخِ الغائبِ، على مواقفَ حضاريةٍ حاضرة، في موقفٍ يتداخلُ فيه الفكريُّ مع العاطفيِّ، فالشاعرُ يريد أن يرجع بالذهنِ إلى نقطةٍ تمكنه من الانطِلاقة في مُعالجةٍ لا تلبثُ تتشظى داخلَه، ولن يجدَ صديقًا أوفى لذلك من قناعٍ تاريخيٍّ، يسرِّب من خلاله عاطفته وحُكمَه بتَجرد موهِم ومُخادع. 
وفي قصيدتي "قصة" و "شعبة الرفض"، يتغير الموقف من التاريخ، فلا يبقى معادلاً موضوعيا، ومتنفسًا حضاريا، وإنما يتحول إلى مرفوضٍ ومهجورٍ، وتنقلبُ فيه الموازينُ القيميةُ، فيصبح الاحتِفاءُ بالهامشيِّ، والرفضُ للمركزيِّ، الشحنةَ الدلالية التي يجترحها الاستدعاء، مزلزلاً بالسؤال البكر دين الهوى ورافضًا البداياتِ مع "ليليث"، ومهاجرًا عن واقعِ الظلمِ بزاد الرفضِ الذي تكتظ به أوراقه مع "أبي ذر" ومقدسا ثورةَ الأشياء والملحَ والعبدَ المنبوذ في تماهٍ وتناصٍ مع نِداء "اسبارتاكوس" في تمجيد وإعلاء لقيمة ال"لا"، وفي تمرد صريحٍ على التواضعاتِ الاجتماعيةِ يعلنُ احتفاءه وانحيازَه للشاعرِ والعاشقِ والثائر من خلال "سحيم" في السياق الثقافي العام، و"محمود مسومة" في السياق المحلي، ويعلن أن امتِداد صوتيهمَا كسر أحقاد المجتمع وانفلتَ من حراس التاريخِ، لينسابا في خلودِ الموسيقى، ويعبرا في صدى الثَوراتِ.
وكما استدَعى الشاعرُ اماعلي عرَّاب الحداثةِ الشعريةِ "محمود درويش" في قصيدة "الظل" ليستَدرك عليهِ، ويؤسسَ في حوارهِ معه لذاتٍ شعريةٍ مُستقلةٍ، همُّها ليسَ التجاوزَ فقط، وإنَّما الإضافة أيضًا.
"قالَ درويشُ :
انتظِر...لا بُدَّ من نثرٍ إلٰهيٍّ لينتصرَ الرسولُ؛
قلتُ:
انتظِر..لا بدَّ من نثرٍ ومن شعرٍ لنسبحَ في تفاصيلِ الحكايةِ والرواية"!!
فإنّه كذلك، وكما يبدو من العُنوان استدعى ميخائيل نعيمه، ومن خلاله بواكيرَ التغييرات المُعاصرةِ في الشعر العربيِّ، واللحظاتِ التأسيسيةَ الأولى، ليسَ فقط في جانب الممارسةِ وإنَّما التنظيرُ لهذه الممارسةِ، والمساهمةُ في منحها مشروعيتها الفنيةَ والجمالية، كل ذلك ليضعَ في حسبانِ المتلقِّي أنَّه أمام عملٍ تأسيسِي يطرحُ إشكالات الاختِلاف ويطمحُ إلى الإضافة، سواء أكان ذلك على مستوى التجربةِ الشخصية، أم كان موجهًا في مضمونِه إلى التجربةِ الكتابيةِ في فضاءها العام.

(4)

 

"أرِيقي بوجهِ الريحِ صبرَ احتِضارها
 فَأحلى ذُنوبِ الشِعر أن يَجرحَ المَدى."

إنَّ هذا الشعرَ الذي يجدُ لذَّته القصوى في مُباهاةِ الريحِ وجرحِ المَدى، لا يُمكن أن يصدرَ في ثوريتِه هذه، وطموحه الحادِّ والجادِّ إلى تجاوزِ الحدود في شتَّى تمثلاتها، عن نسقٍ قائمٍ على أنمذجةٍ ضاربةٍ في السلطويةِ، ومركزيةٍ ثابتةٍ في المُطلقِ.فكيف تفاعل هذا الشعرُ مع الذاكرةِ النسقيةِ؟ وكيفَ تخلصَ في حفرياتِه التاريخيةِ والثقافيةِ من اشتِراطاتِه النسقية؟ وهل فعلاً تخلَّص منها؟ 
يدعونَا الغذامِّي أن لاَ نقفَ في قراءتنا للخطابِ البلاغيِّ عندَ إثاراتِه الفنيَّةِ، واقتراحاتِه الجماليةِ، وإنَّما أن ننفذ إلى عمقِ هذا الخطاب، ومرجعياتِه الثقافيةِ، وإلى أي حدٍّ تمثلهَا وعبَّر عنها. وهو في هذا منَ الحدَّة بحيث يتساءلُ هل الحداثةُ العربيةُ رجعيةٌ؟ ويضعُ أهمَّ رموزِ الكتابةِ الشعرية الحداثيةِ "أدونيس" على محكِّ هذا المنهجِ، ليكتشفَ إلى أي حدٍّ ما تزالُ توجِّه تفكيرهُ ومواقفَه تلك الأنساقُ، التي طالمَا طالبَ بالقطيعةِ معها. 
فهل يُمكن اعتبارُ هذا الانفِتاح على التنوعِ الإيقاعِي في المجموعة، والتصالحِ مع تعددِ الخياراتِ الأسلوبيةِ، والذي ينتظمُ ضمنَ فوضى خلاَّقة، من صميمِ الارتِهان إلى ذهنيةِ "الانتجاع" غيرِ المستقرةِ، التي تحدثَ عنها الراحلُ محمد ولد عبدِي، في سياق تفكيكِه لبنى السياقِ والأنساق، أم هو تجاوزٌ للانغلاقِ حولَ الواحديَّة والمركزيةِ في الذاكرة النسَقية؟؟.
إنَّ تأثر الشاعرِ بهذا الأنساقِ يبدو خاضعًا لِوعيٍ نقديٍّ، يجعلها تحضرُ في المجموعة، ويتم الاشتباكُ معها من مركزِ المِثال، لا المُتمثَّل، أي كمعبَّر بهَا لا عنها. وهذا التعبيرُ بها يقتضِي حوارًا مع مفاهيمِها واشتراطاتِها الثقافية. يظهر ذلك جليًّا في قصيدةِ "أسطورة" التي تستدعِي قصَّةً من المثيولوجيا الشعبيةِ، والتي تؤسس وترسخُ ضمنَ مؤثراتٍ ثقافويةٍ أخرى للأنساق، وما تقتَرحه في الوعيِ الجمعيِّ. هذه "الأسطورة" يدخل من خِلالها الشاعرِ إلى العوالمِ الخاصة للوعي النسقيِّ، ليتساءل من داخلِه، وليقيم مُحاججتهُ من الداخلِ،بحيثُ يطرحُ السؤال بالنبرةِ النقديةِ الثوريةِ، إزاء احتمالاتِ ما قد يجرُّه حدثٌ من قبيل سقوطِ المُشط جنبَ إنسانٍ من تداعياتٍ تشاؤميةٍ، يطرحُ السؤال بصيغةِ استنكاريةٍ :
"عندهَا أستشيطُ من الغيظِ، ماذا؟ 
وماذا يُريدُ بنا القادمُ؟ "
فهذا الغيظ الذي يُشفع بالسؤال، وإن كانَ تموقفًا نفسيًّا وعاطفيًا في دلالتِه المباشرة، فإنه يُضمر تموقفًا فكريًّا يزعزعُ هذه الثوابتَ بالسؤال، وإلا لاكتفى بستجيلِ الحالةِ الشعورية. 
وفي إعلانِ المروقِ من المحليِّ إلى الكونيِّ، يجترحُ الشاعرُ قصيدة "هايكو" ليقفَ من خلالِها على المشتركِ الإنساني، هذا المشتركُ الجوهريِّ القائم في قيمِ التواصلِ الفنيِّ والتدثرِ بالحبِّ فيمسكُ باللحظةِ التي يتشظى داخلَها في قفزٍ صارخٍ على التواضعاتِ النسقية فهو كما يعبر عن نفسه:
"وأنا هناك
 أنا هُنا..
 مُتدثرٌ بالحبِّ ألتحفُ الخطايا"
وفي هذا المقامِ، يصبح امَّاعلي على مستوى من التحررِّ في إدارك ذاته الشاعرة ووعيها بالعالم، لينطلقَ في أفقِ الحداثةِ المعرفيِّ، حيث تَتحقَّق الحداثةُ رؤيةً ورؤيَا، بتعبير جابر عصفور.