ارتفعت نبرة الإحباط في الشارع الموريتاني مع بداية هذا العام، وشهدت ميادين النقاش على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المواقع الصحفية والمنتديات العامة والمجالس الخاصة، سجالات حول أداء الحكومة في الفترة الماضية من المدة الرئاسية للرئيس محمد ولد الغزواني، حيث أصبح عدد متزايد من المواطنين، على اختلاف مستوياتهم ومواقعهم، يعبرون عن فقدانهم الأمل في الحكومة، وقناعتهم بأن وعود الإصلاح التي وعد بها الرئيس، واستبشر بها الشعب والتفت حولها أطياف الموالاة، ودخلت من أجلها المعارضة في هدنة مع النظام، هذه الوعود لن تتحقق، وقناعتهم بأنها لم تكن سوى واجهات لتهدئة الساحة حتى يتمكن الرئيس من تثبيت دعائم حكمه.
في كل الديمقراطيات عندما ينتخب الشعب رئيسا فإنه يعتبره مسؤولا عن كل حسنة وسيئة تصيب الوطن، ومهما حدث من ظروف طارئة خارجة عن سيطرة ذلك الرئيس فإن الشعب سوف يحاسبه عليها، وسيجد له مكامن للتقصير، فالمسؤولية إذا حادثة لا محالة، ولا بد أن الرئيس محمد ولد الغزواني وحكومته يتحملان بعض من المسؤولية عن هذا الإحباط، لكن، دعونا ننظر في الظروف الخارجة عن إرادتهما، والتي نعرفها جميعا، وهي ظروف كوفيد19، فموريتانيا عرفت الإغلاق والتدابير الاحترازية منذ مطلع مارس 2020، أي بعد سبعة أشهر فقط من تسلم ولد الغزواني الرئاسة، ومعلوم ضرورة، الدول في العالم جميعا أوقفت مشاريعها التنموية ووجهت كل طاقتها إلى محاربة الجائحة، هذا بالنسبة للدول القوية الغنية، التي تمتلك موارد، وكان جل أملها ولا يزال هو أن تحافظ شعبها من الجائحة، وتحافظ عليه من نقص الغذاء والدواء، وأصبح النمو الاقتصادي في أسفل السلم بالنسبة لها، وأما الدول الضعيفة فأقصى ما تطمح له هو أن لا يبيد شعبها الوباءُ والمجاعات، وقد ظهرت مؤشرات تلك المجاعة في عدد منها، وكانت لها تداعيات اجتماعية وسياسية خطيرة، وقد تأثرت موريتانيا اقتصاديا واجتماعيا بهذه الجائحة، لكنّ تأثرها والحمد لله ظل إلى حد الآن في الحدود المعقولة، وبالنظر إلى الواقع الاقتصادي الهش لبلادنا فقد كانت مرشحة لأسوء من ذلك، لكن التدابير التي اتخذت نجحت إلى حد الآن في الحد من تفاقم الأزمة، وهو ما يعتبر نجاحا كبيرا للحكومة، وإذا صدقت التوقعات العالمية الحالية بنهاية وشيكة للجائحة، ربما في النصف الثاني من هذه العام، وعودة الحياة إلى طبيعتها في العالم، سيتأكد ذلك النجاح، وسنخرج من الأزمة بأقل الخسائر.
قدم الوزير الأول في خطابه أمام البرلمان في 27 يناير 2021 جردة لعمل الحكومة خلال عام 2020، ونستطيع أن نقول إن بعض المشاريع والأرقام من ضمن ما تحدث عنه حقيقية، لأن المواطن قد لمسها على الأرض، لنأخذ مثلا الزيادات في الأجور وزيادة معاشات المتقاعدين، وتعميم التأمين على بعض القطاعات التي لم يكن يشملها، والإصلاح القانوني والهيكلي في مجال المعادن، والتحسينات في القطاع الصحي، والإعانات النقدية والغذائية المباشرة للشرائح الأكثر فقرا.. هذا فقط للتمثيل بما هو عام على جميع الشعب، وإلا فالإصلاحات المتعلقة بكل قطاع يعرفها أصحاب تلك القطاعات، ويعرفها من لهم اطلاع ومتابعة لعمل الحكومة، وإذا قبلنا -على أساس تلك الحقائق- بكل ما جاء في خطاب الوزير الأول، على أنه مشاريع وأرقام حقيقية، وليس دعاية أو وعودا خيالية، يمكن أن نقول إن العمل التنموي لم يتوقف، وإن الحكومة ستكون جاهزة -بعد انحسار الجائحة- لاستكمال برنامج الإقلاع الاقتصادي الذي أعلن عنه رئيس الجمهورية في مطلع سبتمبر الماضي، ويمكن أن نتوقع انتعاشا سريعا على المسويين الاقتصادي والاجتماعي.
أين تكمن إذا أسباب الإحباط؟، بالنظر إلى أن عمل الحكومة لم يتراجع، وأنها عملت بشكل جاد على الوفاء بالتزاماتها؟
ربما يكون من أسباب هذا الإحباط أن الشعوب التي تعيش أزمات متواصلة، وتفقد الثقة في حكوماتها، تصبح قصيرة النفس، وعندما تحدث لها انفراجة، فإنها تتوقع تغييرا سريعا، وتريد من حكومتها الجديدة أن تحرق المراحل لتصل بها إلى مرحلة النمو والرفاه، لكن التاريخ يقول إن التغيير لا يحدث بين عشية وضحاها، وأن الرفاه المنشود يحتاج إلى سنوات، ولا يمكن لأحد أن ينتظر من حكومة، أيا كانت قدراتها ونجاعة خططها، في ظروف عادية -أحرى في ظروف غير عادية- أن تغير أحوال شعب خلال سنة ونصف، وغاية ما ينتظر منها مع تهيؤ الظروف هو أن تخلق ظروفا مواتية لذلك التغيير المرتقب، وذلك بوضع الأسس القانونية وتهيئة الموارد البشرية والإدارية اللازمة لذلك، وهذا ما تفعله الحكومة الآن.
ومن أسباب الإحباط أيضا أن المعارضة تعاني منذ مدة من ضغط كبير عليها، بسبب ما اعتبرته بعض أوساط المعارضة وبعض المتذمرين من الوضع الحالي، مهادنة للرئيس وسكوتا على حكمه، حتى إنهم يتهمون قادة المعارضة بأنهم عقدوا صفقات سرية مع الرئيس يقبضون بموجبها ثمن سكوتهم، ولا شك أن هذا الضغط هو ما يدفع بعض أطراف تلك المعارضة للخروج عن صمتها، والإدلاء بآراء تعبر عن نفاد الصبر والإحباط من أداء الحكومة، خصوصا وأن هذه المعارضة إلى الآن لم تحصل على ما كانت تطمح إليه من حوار سياسي صريح بينها وبين النظام تنتج عنه تلبية لمطالبها، جلها أو بعضها.
تلك أسباب وجيهة لكن السبب الأهم منها جميعا هو غياب النفاذ الإعلامي إلى المعلومات المفصلة عن عمل الحكومة، وعدم تنوير الجمهور بالتفاصيل الضرورية حول كل مشروع، وكل مبادرة ونشاط تقوم به، فهناك باب مسدود دائما بين الحكومات المتعاقبة وبين الصحافة، حتى أصبح تقليدا متبعا أن تتكتم الحكومة على عملها، ولا تقدم عنه أية تفاصيل، ويعود هذا في الأصل إلى أن الفساد الذي كان سائدا، والذي كانت تلك الحكومات تخاف من أن تطلع عليه الصحافة وتنشره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن غياب منبر صحفي جمهوري يستطيع النفاذ إلى الأخبار والمعلومات المتعلقة بعمل الحكومة ومشاريعها ويقدم للمواطن تقارير دقيقة عنها، ووجهات نظر تصب في مصلحة التنمية الوطنية، غياب ذلك المنبر يؤدي إلى غموض الرؤية، وتذبذبها، ويجعل المواطن نهبا للدعايات المغرضة التي تنتشر على صفحات التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام المنحازة إلى اليمين أو اليسار، وأعني بذلك المنبر جريدة إلكترونية حرة مستقلة ناطقة باسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية، تموّلها الدولة، وتوظف صحفيين أكفاء وكتاب رأي موضوعيين، يكون ولاؤهم جميعا للجمهورية، وليس لنظام ولا حزب، وهدفهم تنمية حقيقية تحقق الرفاه للمواطن وتحافظ على قيمه وهويته، وتدافع عن مكتسباته الوطنية، مثل هذا المنبر الذي يوظف أولئك الصحفيين والكتاب ويقدم الحقائق، غائب في بلادنا، وهو ضروري وملح لأنه يؤازر التنمية، ويدافع عنها، ولن يختلف مع أي نظام ديمقراطي شفاف، يسعى ويخطط لمصلحة البلد، بل سيكون مؤازرا له في معركة التنمية، ومثل هذا المنبر هو وحده الذي يعوّل عليه في صناعة رأي وطني حقيقي، ولا يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تقوم مقامه، لأن رأي وسائل التواصل غير موثوق به، فهو عرضة للتزييف، كما أن وكالة الأنباء لا تقوم مقامه، لأنها منبر للأخبار في الغالب، ولا تقوم مقامه التلفزيونات لأنها منابر خطابية وحوارية وللصورة فيها مساحة طاغية، أما الصحيفة الإلكترونية فهي تجمع كل ذلك، وتزيد عليه -وهذا هو الأهم- بأنها مساحة للتحليل المتأني والرأي العقلاني الذي يتوخى الإقناع بوسائل موضوعية.