سعيد ولد الحسن
يجري الحديث كثيرا هذه الأيام عن المأمورية الثالثة، وهو أمر ما كان ليتم التطرق إليه لو أننا في دولة يحترم فيها القانون والدستور، لأن الدستور واضح في هذه المسألة ويجب على الجميع الانصياع له وأولهم رئيس الجمهورية الذي أقسم على احترامه، لكن مع الأسف يبدو أننا في موريتانيا لا زلنا في دولة صممت على مقاس شخص واحد وجعلت في خدمته. فالإعلام يتغنى بأمجاده، والمواطنون البسطاء يساقون سوقا في لهيب الحر من أجل استقباله (زيارة النعمة التي يحشد لها تشكل نموذجا)، والوزراء وموظفو الدولة ليس لديهم برنامج ولا رؤية لتسيير القطاعات الموكلة إليهم، إلا تكرار أن الرئيس هو صاحب الإنجازات الكبرى التي لا ينكرها حسب زعمهم إلا مكابر وجاحد، وبلغ بعضهم حدا من التزلف جعلهم يطالبون بمأمورية ثالثة للرئيس، وكأن الدستور يجب أن يكون تابعا لرغبة الحاكم، وتناسوا أن المادة الدستورية التي يطالبون بتغييرها غير قابلة للتعديل، وقد أصبحت من ثوابت النظام السياسي الموريتاني التي لا يجوز المساس بها مثل الوحدة الوطنية، لأنها متعلقة بالتناوب السلمي على السلطة وهو جوهر النظام الجمهوري الديمقراطي، ولست أدري هل يريد هؤلاء الذين يطالبون بمأمورية ثالثة أن يتحول نظامنا السياسي إلى ملكية يحكم فيها ولد عبد العزيز مدى الحياة ويورثها لأبنائه، فهذا هو الاستنتاج المترتب على المطالبة بمأمورية ثالثة قد تفتح الباب للمطالبة بمأمورية رابعة وهكذا إلى رئاسة مدى الحياة. نعم يجب أن يخضع الدستور للتعديل في كل فترة زمنية غير قصيرة ليواكب تطورات العصر، لكن هذا التعديل يجب أن يكون للوصول إلى ما هو أفضل، من أجل تقوية مؤسساتنا الدستورية وتقليص بعض صلاحيات رئيس الجمهورية على سبيل المثال، هذا الأمر يمكن أن يفتح فيه مجال النقاش عندما تنتخب حكومة مدنية معبرة عن الرغبة الحقيقية لأغلبية الشعب الموريتاني.
أما الذين يقولون إن بقاء النظام الحالي ضروري لأمن البلاد فلست أدري عن أي أمن يتحدثون. ألا يعلم هؤلاء أن سياسات إفقار غالبية الشعب الموريتاني، والتفاوت الاجتماعي الصارخ، وتخلي الدولة عن مهامها الأساسية في توفير الأمن والعيش الكريم للمواطن من أكبر العوامل المهددة للأمن؟ فقد أصبحت الجرائم التي لم تكن تخطر على بال الموريتانيين من قتل واغتصاب وسرقة منتشرة بشكل كبير في السنوات الأخيرة، مما يثير الخوف على مستقبل البلاد إذا استمر هذا النظام السياسي الذي يبدو أنه لا يبالي بأمن المواطنين، وينحصر همه وغايته من الحكم في تحصيل الأموال، بفرض الضرائب المجحفة وزيادة الأسعار وخاصة أسعار البنزين متجاهلا انخفاض أسعارها في العالم، في عملية نهب وسرقة علنية يصر النظام على التمادي فيها، مما حدا بالمواطنين إلى الخروج إلى التظاهر في حملة "ماني شاري غازوال"، لكن دون جدوى، فنحن أمام نظام حكم اعتاد إهانة المواطنين وإذلالهم وتجويعهم، وكانت تبريرات زياداته لأسعار المحروقات أكبر دليل على الاستخفاف بعقول المواطنين وعدم اهتمامه بمشاكلهم الحقيقية.
إن استمرار السياسات الفاشلة ونهب المال العام من قبل جماعة قليلة تحتكر الدولة ومقوماتها، أصبح يشكل خطرا على المجتمع الموريتاني، وينذر بعواقب لا تحمد عقباها. فنحن لسنا بدعا ولا استثناء من الأمم والدول، ولسنا محصنين ضد الاضطرابات الاجتماعية والثورات التي بدأت تعصف بكيان الدول وتقتلعها من جذورها، مثل ما حدث لدول كانت أنظمتها السياسة أقوى بكثير من نظامنا السياسي الهزيل، وكانت هذه الدول تقدم خدمات لمواطنيها لا يراها الموريتانيون حتى في أحلامهم. لكن فساد الحكام واستبدادهم، والإحساس بالظلم الشديد من قبل الفئات الاجتماعية البعيدة عن دوائر القرار السياسي، وعن حركة الاقتصاد الاحتكاري وعدم وعي تلك الأنظمة بهذه المخاطر، وعدم قدرتها على احتوائها، بسبب عدم وجود آليات حقيقية للتغيير السياسي والتناوب السلمي على السلطة جعل هذه الأنظمة تنهار، بعد ما عاثت في الأرض قتلا وتشريدا وفظائع تقصر الكلمات عن وصفها مما ندعو الله تعالى أن يحفظ بلادنا منه. فما الذي يمكن فعله في موريتانيا حتى يمكن تلافي هذه المخاطر؟
يجب الإعداد من الآن لتغيير سياسي حقيقي يشكل قطيعة مع الفساد والاستبداد وأن يكون الساعون إلى التغيير على بينة من مصاعب المرحلة القادمة، لأنها ستكون مرحلة انتقالية، على من سيتولى تسيير شؤون البلاد خلالها أن يعي ما يعنيه الاضطلاع بهذه المسؤولية والأمانة العظمى في هذا الظرف العصيب الذي تمر به بلادنا بعد عقود من النهب والاستبداد، فالقضية ليست تبادل أدوار أو البحث عن امتيازات، لأن أكبر خطإ يمكن أن يقع فيه من سيتولى شؤون الحكم في البلاد عقب انتخابات نزيهة وشفافة هو أن يبحث عن الامتيازات له وللموالين من حزبه والطامعين في الحصول على المكاسب المادية وما أكثرهم في موريتانيا بعد أن أفسدت فيها الحياة السياسية.
وليكن انتهاء المأمورية الحالية بداية هذا التغيير حتى يكون سلسا ويظهر بمظهر انتقال طبيعي تؤطره المقتضيات الدستورية والقواعد القانونية. لكن يجب على الأحزاب السياسة والشخصيات المستقلة وكل الحريصين على المصلحة العليا للوطن تهيئة الأرضية لمصاحبة هذا التغيير ووضعه موضع التنفيذ، وألا تنشغل بمسرحيات لا تهدف إلا للتمديد للنظام القائم الذي نشأ متأزما وسيبقى كذلك، ولن ينفعه حوار يجريه مع المنتدى أو بمن حضر كما يقال هذه الأيام في السياسية البائسة التي تسير على وقع مبادرات النظام وتفتقر إلى الخلق والإبداع. البديل السليم كما ذكرت هو تغيير النظام القائم، وأي حوار لا يسعى إلى هذا الهدف وهذا المخرج لن يكون إلا تضييعا للوقت، وهو مخرج سيكون أيضا في مصلحة النظام والرئيس الحالي، لأنه سيظهره بمظهر الحريص على مصلحة البلاد وتثبيت ركائز نظامها السياسي الديمقراطي،
وسيحسب له أنه التزم بالقسم الذي أقسمه أمام الشعب الموريتاني في بداية مأموريته الثانية، وهو القسم الوارد في الدستور، وهذا نصه للتذكير:
"أقسم بالله العلي العظيم أن أودي وظائفي بإخلاص وعلى الوجه الأكمل، وأن أزاولها مع مراعاة احترام الدستور وقوانين الجمهورية الإسلامية الموريتانية وأن أسهر على مصلحة الشعب الموريتاني وأن أحافظ على استقلال البلاد وسيادتها وعلى وحدة الوطن وحوزته الترابية.
وأقسم بالله العلي العظيم ألا أتخذ أو أدعم بصورة مباشرة أو غير مباشرة أية مبادرة من شأنها أن تؤدي إلى مراجعة الأحكام الدستورية المتعلقة بمدة مأمورية رئيس الجمهورية وشروط تجديدها الواردة في المادتين 26 و28 من هذا الدستور".
ولم يكشف الرئيس محمد عبد العزيز حتى الآن عن نية واضحة في الوفاء بهذا القسم، بل إن كل القرائن تدل على أنه ماض في التجديد لنفسه بطريقة ما، حيث إنه كلما سئل من قبل الصحافة عن قضية تخليه عن الحكم، تلعثم ومضغ كلماته وأعطى إجابات غير واضحة تتهرب من مضمون السؤال، لذلك يجب أن تنصب كل جهود المعارضة الآن على منع التلاعب بالدستور وأن تظهر عزمها الصادق في التصدي لأي محاولة تهدف إلى تشبث الرئيس الحالي بالسلطة مباشرة أو عبر وسيط، لأن من شأن هذه المحاولة أن تعبث باستقرار البلاد وأن تفتح الباب لكل الممارسات غير القانونية، لأننا عندما لا نحتكم إلى قواعد واضحة، فنحن أمام شريعة الغاب وقانون الأقوى والمتغلب إلى غير ذلك مما يهدد التماسك الاجتماعي ويعصف بكيان الدول