والدتي رحمها الله...سيرة عطرة ورب غفور/ بقلم: عبد الفتاح ولد اعبيدن

جمعة, 2016-06-17 10:21

كنت أفكر وأنا صغير كيف سأواجه لحظة وفاة والدتي، لأنها كانت تمثل بالنسبة لي كل الحضن العاطفي تقريبا، حيث كنت وحيدها.

لكن الثقافة والتربية الإسلامية التي خالطتها منذ وقت مبكر، رسخت لدي روح الرضا بالقضاء والقدر كما هو، واعتبار كل ما يحصل لا راد له ويلزم توطين النفس بالرضا الكامل ، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، كما قال صلى الله عليه وسلم. فلما جاء القضاء سارعت لقولها وتمثلها: "إنا لله وإنا إليه راجعون".

"لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى"، وتحولت نفسي إلى الإجراءات اللازمة.

هكذا تصنع القيم الإسلامية التي تترسخ في النفس بإذن الله، فتحيل المؤمن إلى جبل أشم عند المصائب.

ولعل مصيبة الأم، خصوصا عندما تكون وحيدها، من أعظم المصائب في الدنيا.

اللهم أعني على تذكرها دائما والوفاء بحقها بعد الموت، ترحما وإكراما لسائر ودها وجميع صلاتها، اللهم أرحمها وتجاوز عنها وأغسل خطاياها بالماء والثلج والبرد، وتقبلها برضوانك في الفردوس الأعلى من الجنة، ووسع نزلها ونور قبرها، اللهم آمين.

لقد كانت صلبة الإيمان، عصامية لا تقف أمام باب أي كان، مقبلة على شأنها، تحب الاحتراف والعمل وتواجه الصعاب بقوة أسطورية.

فعندما أعتقل أخوها لأم في مطلع الستينات صمدت وصبرت ووفته حقه في التضامن والدعم المعنوي وغيره، وعندما أعتقلت في السنين الأخيرة من عمرها لم تتضعضع ولم تستسلم لمشاعر الخوف أو اليأس، وإنما صبرت حتى انفرجت الكربة.

وعندما بزغت شمس الصحوة الإسلامية بمدينة أطار في مطلع الثمانينات، وكنت شديد الإقبال على ذلك الأمر المبارك، وكان النظام وقتها نظاما عسكريا، فلم تلمني على الانخراط في جو فكري وسياسي خاص، وإنما آوت توجهاتي وصبرت بصدر رحب تردد أصدقائي الكثيرين، وما لاحظت منها إلا الدعم والتشجيع والنصرة فيما تناغمت معه من مبادئ، ضمن ذلك التيار الإسلامي المعروف.

لقد كانت والدتي زينب بنت عبد المعطي ولد الحسن رحمها الله مدرسة في الإيمان والعصامية والعمل والحرص الشديد على سائر رحمها، وتردد دائما، ما أقوم به لا أريد به إلا وجه الله.

فقد كانت تعي أن العمل الصالح بخاتمته وعاقبته عند الله، فكان الإخلاص حاضرا بقوة في نفسيتها، مؤكدة أنها لا تبتغي إلا وجه الله.

اللهم وقد حرصت على هذا المنحى الرفيع في مقصد عملها الصالح، فحقق رجاءها برضوانك ونعيمك، يا أكرم الأكرمين، يا ذا الجلال والإكرام.

هي الشريفة الشمسدية، ولدت في ضواحي مدينة أطار حوالي 1940 ميلادية، عاشت أزيد من 75 سنة لله الحمد، في سياق وأجواء الإسلام الحنيف، وهذا فضل كبير من الله، ولا نقول إلا ما يرضي الرحمن، ّ"إنا لله وإنا إليه راجعون".

أشكر سائر من زارني أو اتصل علي للتعزية، وأشكر كل الزملاء على ما نشروا، فقد كان كل ذلك سندا ودعما معنويا معتبرا، وربما لذلك شرعت التعزية ثلاثة أيام، ليتمكن المصاب من تفهم ما حصل والرجوع إلى نمط حياته الاعتيادي، بعيدا عن أسر الهموم والأحزان.

إن الصبر جائزته كبيرة عند الله، ولابد من توطين النفس عليه، فهو سبب الصلاة من الله والرحمة والهداية والجنة. قال الله تعالى: "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ".

وقال سبحانه في موضع آخر: " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون".

وما هذه الوشائج والنعم إلا عرية من الله، وعاقبة العرية أن ترد لصاحبها.

قال الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة العامري :

والمال والأهلون إلا وديعة *** ولا بد يوما أن ترد الودائع

فهكذا هي سيرة الحياة، اللهم أكرم نزل والدتي وتغمدها برحمتك وأجعل قبرها روضة من رياض الجنة، وتول سائر شأنها عفوا وسترا، وتقبلها في أعلى درجات نعيمك، يا رب العرش العظيم.

قال الله جل شأنه: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ".

"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا"...اللهم أجعلها منهم، اللهم آمين.

وسيظل فقدان عطف الأمومة امتحان كبير من الله، نرجو من الله تجاوزه بأمان، بالصبر والتسليم التام، ولا حول ولا قوة إلا بالله علي العظيم.

وفي الختام، أذكر بان الوالدة توفيت في رمضان في الثالث من هذا الشهر الكريم المبارك الموافق يوم الأربعاء 8 يونيو2016، وذلك بنواكشوط بمستشفى "صباح"، كما دفنت نفس اليوم في مقبرة "لكصر" في نواكشوط، ويوم الأربعاء هو يوم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث توفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ولم يدفن إلا يوم الأربعاء، بعدما حسمت قضية الخلافة لصالح الصديق أبوبكر رضي الله عنه وأرضاه.

اللهم صب عليها شآبيب رحمتك وعفوك وسترك في الدنيا والآخرة وأرحم سائر موتانا وسائر موتى المسلمين وارحمنا إذا صرنا مثلهم.